تُونِسْ المُورِسْكِيَّة

البحر أمامهم  ومحاكم التفتيش ورائهم

قِصَّةُ التّهْجِير
في مطلع القرن 17، بدأت واحدة من اكثر موجات التهجير القسري في تاريخ البحر الابيض المتوسط 

 أُجبر المورسكيون ،الذين ظلو في اسبانيا بعد سقوط
 الاندلس ، على التنصر غصبا، أين تم تعذيبهم محاسبتهم ،مراقبتهم ومعاملتهم كغرباء في ارضهم من قبل محاكم التفتيش 

 وتحت ذريعة تطهير اسبانيا دينيا، تم إصدار قرار من قبل الملك فيليب الثالث بطردهم سنة 1609.هذا القرار الملكي لم يكن مجرد طرد بل محاولة لطمس هويتهم واقتلاعها من الجذور . 

اُضطر آلاف المورسكيين إلى ترك مدنهم وقُراهم وركوب البحر في ظروف قاسية نحو المجهول. و تحت تهديد السلاح، بحثوا عن الأمان في الضفة الجنوبية ليتشتتوا في ارجاء الارض من القارة الأوروبية وصولا إلى أمريكا ومن المغرب إلى الجزائر ومن ليبيا إلى تونس.

هذا الطردلم يجلب  الى العائلات والأهالي سوى المآسي المحملة برغبة في العيش الكريم داخل هذه البلدان
لكن تونس تحديداً كانت أبرز وجهاتهم .

لم يكن ذلك بمحض الصدفة، فتونس آن ذاك إيالة عثمانية يحكمها عثمان داي، الذي كان يستمد نفوذه المباشرة من 
الباب العالي

رحبت تونس بالمورسكيين الذين طردو من أرضهم ،لا كلاجئين بل كفاعلين محتملين في المجتمع.َ

وبناء على أوامر الباي تم تخصيص أراض تحت تصرفهم، ليسمح لهم بذلك الاستقرار في تونس العاصمة و عدة مناطق اخرى منها سليمان ،بنزرت و تستور التي ستعرف لاحقا بأنها مهد الثقافة الموريسكية في تونس .
حسام الدين شاشية
أستاذ التاريخ الحديث في "جامعة تونس"
ومُتخصّص في الدراسات الموريسكية والعلاقات المغاربية/ الإيبيرية في الفترة الحديثة 
مُدن أَنْدَلُسيَّة
بعد ان طرد المورسكيون من اراضيهم وجد عشرات الالاف منهم ملاذا في الاراضي التونسية .

فاندماجهم في المجتمع التونسي اثمر عن تحولات اقتصادية واجتماعية وثقافية ساهمت في نهضة تونس الحديثة .

جاء المورسكيون الى تونس محملين بخبرات متراكمة في عدة مجالات ابرزها الفلاحة و تقنيات الري المتطورة وزراعة المحاصيل ذات القيمة الاقتصادية العالية مثل الزيتون والحمضيات والرمان والتين  و العنب .

ويشير المؤرخ الفرنسي روبير ماتيران الى ان المورسكيين ساهموا في اصلاح الاراضي الزراعية وادخلوا انظمة زراعية كانت متطورة في الاندلس مقارنة بالبلدان المغاربية في ذلك العصر .

انخرط المورسكيين في التجارة خاصة في ما يخص  الحرف مثل صناعة النسيج والدباغة والصابون الذي ساهم في ازدهار الانشطة والأحياء الصناعية في تونس العاصمة وبنزرت وسليمان .

وقد دوّن المؤرخ حسن حسين عبدالوهاب في كتابه ورقات
 عن الحضارة العربية الإسلامية في تونس "أن العناصر الأندلسية كانت حيوية في بعث الروح الحرفية والاقتصادية لا سيما بعد تراجع نسبي في تلك القطاعات بفعل الاضطرابات السياسية السابقة"
نكهة أندلسية في المائدة التونسية
المطبخ والعادات الغذائية
ترك المرسكيون أثراً واضحاً ومتجذراً في المطبخ التونسي بإضافة أصناف جديدة من المأكولات وطرق الطهي لا تزال راسخة في الموائد المحلية.

" منها طبق" الشرمولة " ، " الطاجين "، "الملثوث" "المحمص ،"البركوكس " إضافة إلى الحلويات" ككعك الورقة"
و"عصيدة الزقوقو"  بطابع أندلسي بحت .
كما ان المورسكيون جلبو أنواعا من  الخضار  التي لم تكن متوفر في تونس حينها منها الفلفل ،البطاطا،الطماطم  
التي ابتكرو منها طبق الشكشوكة الشهير.

 تبين الباحثة ماريا خيسوس مانيو روبيرا
 أن الاندماج لم يكن فقط في الانتاج الغذائي بل في" الطقوس المصاحبة للأكل مما خلق طابعاً أندلوسياً واضحاً في الحياة اليومية التونسية".
ذاكرة المكان والهوية
تبرز مظاهر استقرار المورسكيين من خلال تأسيس عدد من المدن أو إعادة إعمارها من خلال ترك الطابع المعماري والاجتماعي المورسكي كبصمة خالدة خاصة بهم .

منها مدينة سليمان التي تقع في ولاية نابل بالضاحية الجنوبية الشرقية للعاصمة تونس تعتبر نموذجا على النمط الأندلسي بشوارع ضيقة ومساجد صغيرة وبيوت بواجهة بيضاء وأبواب خشبية مصبوغة بالأزرق والأخضر 

كذلك الساحات الداخلية (الصحن )التي تحيط بها الغرف وهو طابع أندلسي واضح واستخدام الفسيفساء ذي الألوان المتعددة على الجدران والنافورات كما ان جامع سليمان الكبير يحمل طبع أندلسي في مئذنته وزخرفته.

طابع أندلسي

يعتبر المورسكيون من بين أكثر المؤثرين في الاقتصاد المحلي لتستور . تخصصوا في الزراعة والحرف اليدوية ، و بحسب الدكتور كمال بوشناق فقد ساهم المورسكيون في تحسين الانتاج الزراعي، وزيادة التنوع الصناعي من خلال تخصصهم في الزراعة وتهيئة الأراضي إلى جانب صناعة النسيج والجلود. وساهم المورسكيون في تعزيز التعليم وإقامة المؤسسات الثقافية والدينية.

شهادة

وبحسب عبد القادر بن يحيى ، غيّرت الجالية المورسكية في الهيكل المجتمعي المحلي حيث ساهموا في إضفاء طابع متنوع على الحياة الاجتماعية تطوير المؤسسات التعليمية. مايميز تستور هو البصمة الشهيرة للمورسكيين من خلال جامع تستور الكبير أو كما يُعرف محليًا بـ"الجامع الأعجوبة" هو أحد المعالم الأندلسية البارزة في شمال تونس، ويقع في قلب المدينة القديمة من تستور بُني في القرن 17 ويُجسّد في هندسته المعمارية وتفاصيله الجمالية خلاصة التقاليد الأندلسية التي حملها الموريسكيون معهم.

الساعة الشهيرة

لكن ما يجعل هذا الجامع فريدًا هو ساعته الشهيرة المثبتة أعلى مئذنته ذات الطابع الأندلسي. ليست بساعة عادية، فعقاربها تدور بعكس الاتجاه المتعارف عليه أي من اليمين إلى اليسار. ويُقال إن هذه الحركة العكسية تعكس شوقا لزمن مضى، أو مقاومة رمزية للنسيان والانصهار في محاولة لاسترجاع زمن الأندلس الضائع.

عائلات موريسكيّة
يشير شاشية الى أن هذه الالقاب تظهر قدرة الموريسكيين على التكيّف معمرجعياتهم الرمزية والهوياتية المرتبطة بالاندلس، ويُمكن القول إن لقب العائلة شكل الوطن الجديد يتخلله أداة مقاومة ثقافية ضد النسيان، ووسيلة لحفظ النسب والذاكرة رغم عامل الوقت ومرور العصور الا أن الكثير من العائالت ذات الاصول الموريسكية حافظت على القابها نذكر منهاكشف هذه الشهاداة عن وعي الموريسكيين العميق بهويتهم، وقدرتهم على حفظ سردياتهم التاريخية عبر األجيال، ما يعكس مقاومة ثقافية صامتة .

العطار

شير هذا اللقب إلى منطقة جغرافية، بل إلى مهنة كانت رائجة في أوساط الموريسكيين، وخاصة في غرناطة، وقد تم الحفاظ عليه كما هو.

القرقني

تُنسب إلى مدينة قرقنة وقد حافظت على شكل لقبها الاصلي تقريبًا بعد الاستقرار في تونس.

الزريبي

يُعتقد أنّها تنحدر من منطقة Xeribilla) )الواقعة قرب إشبيلية , تم تعريب الاسم ليأخذ شكل "الزريبي"

المراكشي

رغم أن الاسم يوحي باالنتماء إلى مدينة مراكش المغربية، إلا ان العائلة تعود في الاصل إلى الاندلس، وسميت بهذا الاسم لأن أفرادها مّروا عبر مراكش في طريق هجرتهم نحو تونس.

القلشاني

يرّجح أن يكون أصلها من منطقة كالش القريبة من غرناطة، وتحول اللفظ ليُناسب السياق العربي.

بن عاشور

تعود أصولها إلى مدينة قرطبة، ويُحتمل أن يكون لقبها يحتوي على الاسم الاسباني عاشوريو ) الذي يحمل دلالة دينية.

حنان زبيس 
صحفية وأساتذة بمعهد الصحافة 
حفيدة مورسكيين

المنفى امتداد لظل الذاكرة

في الأزقة القديمة وبين جدران تستور تحمل في تركبتها قصص وحكايات المورسكيين هي شواهد حية على انتماء جماعي ما زال يستحضر مأساة الطرد سنة 1609 ليس كحدث غيّر مجرى التاريخ فقط بل كجرح سردي لا يزال ينزف في الوجدان.

يقول المؤرخ حسام شاشية: "  تستبطن الذاكرة الشعبية التونسية عناصر موريسكية مبثوثة في الاهازيج الشعبية والمأكولات والعمارة واللغة اليومية من دون أن تكون واعيا دائما بمصدرها "

رغم هذا الحضور الوجداني بقي المورسكيون غائبين عن الرواية الرسمية للتاريخ التونسي فلا تذكرهم كتب التاريخ المدرسية إلا لماما ولا يتم ادراج مساهمتهم في تشكيل الهوية التونسية الحديثة.

هذا الغياب لم يكن بريئاً، بل يعكس توجهات محددة لتكريس سردية قومية اختزلت الهوية التونسية في ثنائيات محددة (عربية /إسلامية)

لكن أمام كل هذا التهميش التاريخي تصبح الذاكرة وسيلة مقاومة ناعمة توثق وتحفظ ما رفضه التاريخ الرسمي فالعائلات ذات الأصول الأندلسية حافظت على إرثها الثقافي والاجتماعي رغم تعاقب الأجيال .

فمن تقنيات الفلاحة الدقيقة بزغوان وسليمان ومن النقش والزخارف الأندلسية في تستور وصولا إلى المالوف ،الموسيقى الأندلسية التي تمثل ظل المورسكي حتى وإن لم يذكره التاريخ الرسمي.
حنان زبيس 
صحفية وأساتذة بمعهد الصحافة
حفيدة مورسكيين
في الوقت الذي تتصاعد فيه خطابات الكراهية وسرديات المؤامرة ويتم استثمار قضايا المهاجرين لتغذية النزاعات الشعبوية.    

 يعد استحضار التاريخ المورسكيي في هذا السياق ليس كترفا تاريخي بل كضرورة معرفية لفهم تشكل الهوية التونسية في عمقها .

لأنها حصيلة تداخل مكونات عرقية وثقافية ودينية متعددة أمازيغية، يهودية، عربية، أفريقية ،،إسلامية وأندلسية مورسكية.
هذه الفسيفساء التي كونت الهوية التونسية تاريخيا والتي
 لا ينبغي أن تصبح ذريعة لتفكيكها باسم الخطر الديمغرافي أو الهوية المهددة .

فتونس كانت وما زالت ساحة لتلاقي الحضارات والثقافات لا ساحة انغلاق وإقصاء

 وبأن التعدد الثقافي عنصر إثراء لا تهديد ، وهو ما يتوجب أن نراكم عليه إعلاميا وتربويا وكذلك سياسيا ، دفاعا عن مجتمع منفتح ومتصالح مع ذاكرته وواع بتاريخه  وبإمكانه مواجهة التحديات الراهنة 
من موقع الوعي والإدراك لا من موقع الخوف والإقصاء .